وأراد الحزب من خلال بيانه المفصل، ايصال مجموعة من الرسائل، أبرزها إلى الداخل اللبناني ومفادها أنه باقٍ، منظّماً ومتماسكاً، ولن يسمح بأن يُفرض عليه مزيد من التنازلات تحت الضغوط. أما الرسالة الثانية البارزة فالى “إسرائيل” والولايات المتحدة ومفادها أنه غير مستعد لرفع الراية البيضاء، وأنه يتحضّر لكل السيناريوهات والاحتمالات، ومنها حرب جديدة موسعة، مع ابقائه عن قصد مبهم احتمالية أن يقوم قريبا بالرد على الاعتداءات الاسرائيلية المتصاعدة.
ولا ينكر العميد المتقاعد منير شحادة أن بيان حزب الله الخميس “شكّل صدمة في الساحة اللبنانية، لأنه تضمن كلاما “عالي السقف”. فبعد مرور سنة على الخروقات الإسرائيلية، ثبت أن الضغط الديبلوماسي على “إسرائيل” غير فعال، فهي لم ولن تلتزم بأي ضوابط وقرارات وتعهدات، خاصة وأنها تتمتع بضوء أخضر من الولايات المتحدة، ليس في لبنان فحسب بل في المنطقة ككل”.ويقول شحادة لـ”الديار” أن “إسرائيل لن تتوقف عن الاعتداء، ولن تنسحب من جنوب لبنان مهما قدم لبنان من تنازلات، سواء على الصعيد السياسي أو فيما يتعلق بمسألة سلاح حزب الله”، متسائلا عن جدوى الجلوس على طاولة المفاوضات، “طالما حزب الله يؤكد أنه لن يسلّم السلاح، ولن يناقش حتى بالاستراتيجية الدفاعية قبل وقف الاعتداءات والانسحاب من الاراضي المحتلة وانطلاق عملية اعادة الاعمار، وبالمقابل العدو يقول أنه لن ينفذ أي مما سبق قبل نزع سلاح المقاومة”؟!
وعن خيارات حزب الله في ظل هذا الواقع، يقول شحادة: “حتى الآن تبدو خسائر المقاومة والقصف الذي تتعرض له، أقل كلفة من انخراط كامل في حرب شاملة، على أن يتبدل ذلك عندما تستشعر أنها وصلت الى مكان ،يكون فيه السكوت عن الخروقات والاعتداءات أكثر كلفة من الرد عليها”..
ولم يتأخر رد “لبنان الرسمي” على رسالة حزب الله ، اذ خرج رئيس الحكومة نواف سلام ليؤكد أن قرار الحرب والسلم استردّته الحكومة اللبنانيّة، و”ما حدا إلو كلام بالموضوع”. وتبعا لهذا الموقف، سيكون الحزب أمام مفترق طرق حقيقي في التعامل مع الواقع اللبناني الداخلي، إما أن يثبّت موقعه ضمن معادلة “الدولة والمقاومة”، من خلال تفاهم جديد مع الرئاسة والحكومة، أو أن يذهب إلى مواجهة ، إذا شعر بأن مشروع “نزع السلاح” يتقدّم بخطوات عملية. بالمحصلة، هو قرار بالمواجهة اتخذه الحزب، كما كرر قياديوه دائما “سنقاتل حتى لو أدى ذلك لاستشهادنا جميعا”.
وكتب داوود رمال في” نداء الوطن”:أعاد «حزب الله»، بكتابه المفتوح إلى الرؤساء الثلاثة، ترتيب المشهد السياسي اللبناني على نحوٍ يعكس إرادة في الحسم خارج الأطر الدستورية، ويؤكد مرة جديدة أن الملفات السيادية الكبرى ما زالت تُدار بعقلية أحادية لا مؤسساتية. فالبيان، الذي جاء بلهجة عالية السقف غير مسبوقة منذ إعلان وقف إطلاق النار، شكّل عمليًا استبدالًا للجواب الرسمي الذي كان يُفترض أن يقدّمه «الحزب» إلى الموفدين حول مسار التفاوض ومسألة حصرية السلاح. وبدلًا من أن يأتي الردّ ضمن نقاشٍ منظم داخل الحكومة أو عبر القنوات المعتمدة للتشاور الوطني، اختار «الحزب» أن يوجّه موقفه عبر كتاب علني إلى الرؤساء الثلاثة، قاطعًا الطريق أمام أي أخذ ورد، ومستعيدًا صلاحية القرار في هكذا ملفات أساسية من رئيس مجلس النواب نبيه بري المفوض من «الثنائي» إدارة الحوار حول القضايا المصيرية.
هذه الخطوة، بما تحمله من رمزية سياسية، لا يمكن فصلها عن التوقيت ولا عن مضمون الرسالة. فهي تمثل في جوهرها انتقالًا من منطق المشاركة إلى منطق الإملاء، إذ جعلت من البيان أداة لفرض موقف نهائي على الدولة، في لحظة كان يُفترض فيها أن يُناقش الملف في مجلس الوزراء حيث تتلاقى المواقف وتُنسَّق السياسات. ومع أن «الحزب» قدّم بيانه بعبارات تتحدث عن «التفاهم الوطني» و«حماية السيادة»، إلا أن الشكل الذي اعتمده يناقض هذه الشعارات عمليًا، إذ ألغى دور المؤسسات المعنية وأقفل الباب أمام أي بحث داخل الحكومة في الخيارات المطروحة، سواء بشأن التفاوض وآليات تثبيت وقف النار أو إدارة العلاقة مع الموفدين الدوليين.
جوهر الإشكالية لا يكمن في الموقف بحد ذاته بل في طريقة إعلانه. فأن يوجّه حزب يمتلك ذراعًا عسكرية رسالة إلى الرؤساء الثلاثة بلغة تقريرية تُنهي النقاش ولا تفتحه، يعني عمليًا تحويل الخطاب السياسي إلى قرار فوقي ملزم، وإخضاع السلطة التنفيذية لأمر واقع جديد. وفي وقت كان رئيس الجمهورية ومعه رئيس الحكومة نواف سلام يسعيان إلى بلورة رؤية مشتركة داخل مجلس الوزراء حيال مسار التفاوض، أتى البيان ليصادر هذا النقاش، وليضع الحكومة أمام معادلة صعبة وهي؛ إما أن تساير خطاب «الحزب» وتغلق ملف التفاوض، أو أن تواجهه سياسيًا بما قد يُفاقم الانقسام الداخلي ويشل قدرتها على إدارة المرحلة المقبلة.
البيان أيضًا يوجّه رسالة مزدوجة إلى الداخل والخارج. إلى الداخل، بأنه لا تفاوض ولا مساومة على ملف السلاح، وأن «الحزب» وحده يحدّد توقيت البحث في الاستراتيجية الدفاعية، في مخالفة واضحة لنص وروح «البيان الوزاري» الذي أقرّ بشكل واضح لا لبس فيه حسم هذه المسائل. وإلى الخارج، بأنه لا مجال للوساطة ولا جدوى من الضغوط، ما يعقد مهمة الموفدين وآخرهم مدير المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد الذين سعوا لاستكشاف إمكان تثبيت التهدئة عبر مقاربة سياسية ودبلوماسية. بهذا المعنى، فإن الكتاب تجاوز مفهوم التعبير عن موقف مبدئي، إلى مرحلة إعلان إغلاق لمسار تفاوضي محتمل، وتحويل الملف من نقاش حكومي إلى موقف حزبي مكتمل لا يقبل التعديل.
اللغة العالية في البيان قد تُرضي جمهورًا معينًا، لكنها لا تصنع سياسة وطنية متوازنة. إذ لا يمكن للدولة أن تحمي سيادتها عبر بيانات أحادية تضعها في موقع التابع أمام من يملك السلاح والقرار.. إن ما تحتاجه البلاد اليوم ليس مزيدًا من المواقف الصدامية، بل مساحة حوار فعلي داخل المؤسسات، تضمن وحدة القرار وتُعيد للدولة هيبتها بوصفها المرجعية الوحيدة في الحرب والسلم، لا مجرد صندوق بريد لخطابات تُكتب خارجها وتُفرض عليها.

