تتقاطع منذ الشهر الماضي، المسارات الضاغطة على “حزب الله”، ليس فقط عسكريًا، على مستوى التهديدات الإسرائيلية المتواصلة بحرب واسعة جديدة، لا تقف عند حدود الخروقات المستمرّة لوقف إطلاق النار، في سبيل استكمال القضاء على قدراته ونزع سلاحه بالقوة، ولكن أيضًا ماليًا، من خلال العقوبات المتلاحقة التي تفرضها وزارة الخزانة الأميركية على من تتهمهم بالضلوع في عمليات تمويل لصالح “حزب الله”.
وفي حين يصرّ “حزب الله” على الصمود رغم كلّ شيء، متحدّثًا عن “مؤامرة وجودية” يتعرّض لها، يبرز في قلب هذا المشهد اسم جون هيرلي، وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، الذي يجاهر بأن واشنطن ترى “فرصة سانحة” في لبنان لقطع التمويل الإيراني عن “حزب الله” والضغط عليه لإلقاء سلاحه، مشيرًا إلى أن طهران نجحت في تحويل نحو مليار دولار إلى الحزب خلال عام 2025 رغم العقوبات المفروضة ضدّها.
هذه الأرقام ليست مجرد معطى تقني في سوق العقوبات، بل تُقدَّم أميركيًا كدليل على أنّ تضييق شبكات التمويل قد يشكّل المدخل الأنجع لتغيير سلوك الحزب وإضعافه بعد الضربات العسكرية التي تلقّاها بين عامي 2023 و2024. واستنادًا إلى ما تقدّم، يمكن الحديث عن “استراتيجية” لتجفيف منابع المال ووضع البنية العسكرية تحت النار معًا، فهل تنجح في دفع الحزب إلى القبول بتسوية تُنهي دوره العسكري على الحدود وتحد من نفوذه الداخلي؟
“فرصة تاريخية” لتغيير قواعد اللعبة
في الخطاب الأميركي، يتجاوز الحديث عن العقوبات مستوى “الإجراء التقني” إلى سردية أشمل عن “فرصة تاريخية” لعزل “حزب الله” عالميًا. ويتجلّى ذلك بوضوح في تقرير لمجلة “فورين بوليسي” على سبيل المثال، حيث يقدّم الحزب بوصفه في أضعف حالاته بعد الضربات الإسرائيلية، ويعتبر أن نجاح أي مشروع لـ”تحرير لبنان من قبضته الحديدية” يفترض ربط الضغط الداخلي بتطويق خارجي مالي وقانوني.
ولعلّ المقصود بذلك عبر توسيع دائرة الدول التي تصنّفه كمنظمة إرهابية، واستخدام هذا التصنيف لفتح الباب أمام مداهمات وملاحقات ومصادرات في أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. ويتكامل هذا البعد القانوني-المالي الذي تقوده الولايات المتحدة، مع التصعيد العسكري الذي تقوده إسرائيل، حيث يتزايد الحديث عن الانتقال إلى مرحلة “الإطباق المالي” بوصفها أقل كلفة من الحرب المفتوحة وأكثر فاعلية على المدى الطويل.
بذلك، يغدو استهداف شبكات التحويلات وشركات الواجهة والمموّلين في أفريقيا وأميركا الجنوبية امتدادًا مباشرًا لمسار الحرب، لا مسارًا منفصلًا عنه، وفق ما يقول العارفون، وهو ما يعزّزه “تزامن” التشدد المالي ضدّ الحزب، مع رفع إسرائيل مستوى “التهويل بالحرب”، من أجل القبول بنزع سلاح “حزب الله”. وهكذا، يرى كثيرون أنّ الرسالة الأساسية التي تخرج من واشنطن وتُلتقط في تل أبيب تبقى أن الضغط مطلوب اليوم حتى لا يعيد الحزب ترميم قدراته المالية والعسكرية.
بين تفادي الانهيار وامتصاص الضغوط
في مواجهة هذا المسار، يحاول لبنان الرسمي أن يمسك العصا من منتصفها، حيث حرص الرئيس جوزاف عون خلال لقائه وفد الخزانة الأميركية في بيروت على التأكيد أن الدولة تطبّق “بصرامة” إجراءات منع تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، في رسالة مزدوجة، تستهدف تطمين واشنطن والأسواق إلى جدية التزام المصرف المركزي والقطاع المصرفي بالمعايير الدولية، ولكن أيضًا محاولة تجنيب ما تبقى من النظام المالي اللبناني كلفة عقوبات شاملة قد تُقفل ما تبقى من منافذ مع النظام المصرفي العالمي.
غير أن هذه المقاربة الدفاعية تصطدم بواقع داخلي بالغ الهشاشة. فالقدرة على التفريق بين “معاقبة حزب الله” و”معاقبة بيئته والاقتصاد اللبناني ككل” تكاد تكون نظرية في بلد تحوّل إلى اقتصاد نقدي خارج المصارف، وحيث تداخلت شبكات الحزب الاقتصادية مع تفاصيل الحياة اليومية في الضاحية والجنوب والبقاع. وبالتالي فإنّ كل تشدد أميركي إضافي في ملاحقة التحويلات والشركات والمموّلين لا ينعكس فقط على قدرة الحزب على تمويل أنشطته العسكرية، بل يضرب أيضًا شبكات الخدمات الاجتماعية التي اعتمدت عليها شرائح واسعة بعد الانهيار المالي في 2019.
بالنسبة إلى “حزب الله” نفسه، تُقرأ الحملة الأميركية-الإسرائيلية كجزء من مشروع أوسع لاستكمال ما عجزت عنه الحروب المباشرة، أي انتزاع السلاح عبر الخنق المالي، ولذلك يركّز خطاب الحزب العلني على الصمود وقدرة “اقتصاد المقاومة” على التكيّف. لكن هذه المرونة لا تُخفي أن الكلفة ترتفع، ولا سيما أنّ ورشة إعادة الإعمار لم تبدأ بعد، فيما يتصاعد تحدي الحفاظ على تماسك القاعدة الشعبية في ظل الضائقة المعيشية.
هنا، تبدو المفارقة الأكثر حدة: كلما تشددت واشنطن في استهداف قنوات التمويل الرسمية وشبه الرسمية، ازداد الميل إلى توسيع الاعتماد على الاقتصاد الموازي غير الخاضع للرقابة، من تحويلات نقدية وشبكات “حوالة” وصناديق مغلقة، ما يفاقم تآكل الدولة ويقلّص قدرة المصرف المركزي والأجهزة الرقابية على الإمساك بحركة الأموال. بهذا المعنى، فإن جزءًا من أدوات الضغط المالي التي يُفترض أن تعزّز الدولة في مواجهة “حزب الله” قد ينتهي عمليًا إلى إضعافها أكثر، وترك الساحة للاقتصاد الرمادي الذي يجيده الحزب ويعرف كيف يتحرك ضمنه.
تتعامل واشنطن وتل أبيب مع اللحظة الراهنة بوصفها نافذة نادرة لفرض أثمان باهظة على “حزب الله” ماديًا وعسكريًا، ومحاولة دفعه إلى مراجعة موقعه وسلاحه قبل أن يستعيد أنفاسه بعد حرب 2023–2024. وفيما يتصرف لبنان الرسمي من موقع مَن يحاول تجنّب الانفجار الشامل في النظام المالي والسياسي، يسعى الحزب إلى امتصاص الضغوط وإعادة تدوير شبكات تمويله.لكن ما يغيب عن النقاش الجدّي هو سؤال القدرة على التحكّم بالنتائج، فهل ينفع خنق “حزب الله” ماليًا من دون مسار سياسي داخلي واضح، وهل يُدفَع الحزب في نهاية المطاف إلى تقديم تنازلات في ملف السلاح؟
وفي حين يصرّ “حزب الله” على الصمود رغم كلّ شيء، متحدّثًا عن “مؤامرة وجودية” يتعرّض لها، يبرز في قلب هذا المشهد اسم جون هيرلي، وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، الذي يجاهر بأن واشنطن ترى “فرصة سانحة” في لبنان لقطع التمويل الإيراني عن “حزب الله” والضغط عليه لإلقاء سلاحه، مشيرًا إلى أن طهران نجحت في تحويل نحو مليار دولار إلى الحزب خلال عام 2025 رغم العقوبات المفروضة ضدّها.
هذه الأرقام ليست مجرد معطى تقني في سوق العقوبات، بل تُقدَّم أميركيًا كدليل على أنّ تضييق شبكات التمويل قد يشكّل المدخل الأنجع لتغيير سلوك الحزب وإضعافه بعد الضربات العسكرية التي تلقّاها بين عامي 2023 و2024. واستنادًا إلى ما تقدّم، يمكن الحديث عن “استراتيجية” لتجفيف منابع المال ووضع البنية العسكرية تحت النار معًا، فهل تنجح في دفع الحزب إلى القبول بتسوية تُنهي دوره العسكري على الحدود وتحد من نفوذه الداخلي؟
“فرصة تاريخية” لتغيير قواعد اللعبة
في الخطاب الأميركي، يتجاوز الحديث عن العقوبات مستوى “الإجراء التقني” إلى سردية أشمل عن “فرصة تاريخية” لعزل “حزب الله” عالميًا. ويتجلّى ذلك بوضوح في تقرير لمجلة “فورين بوليسي” على سبيل المثال، حيث يقدّم الحزب بوصفه في أضعف حالاته بعد الضربات الإسرائيلية، ويعتبر أن نجاح أي مشروع لـ”تحرير لبنان من قبضته الحديدية” يفترض ربط الضغط الداخلي بتطويق خارجي مالي وقانوني.
ولعلّ المقصود بذلك عبر توسيع دائرة الدول التي تصنّفه كمنظمة إرهابية، واستخدام هذا التصنيف لفتح الباب أمام مداهمات وملاحقات ومصادرات في أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. ويتكامل هذا البعد القانوني-المالي الذي تقوده الولايات المتحدة، مع التصعيد العسكري الذي تقوده إسرائيل، حيث يتزايد الحديث عن الانتقال إلى مرحلة “الإطباق المالي” بوصفها أقل كلفة من الحرب المفتوحة وأكثر فاعلية على المدى الطويل.
بذلك، يغدو استهداف شبكات التحويلات وشركات الواجهة والمموّلين في أفريقيا وأميركا الجنوبية امتدادًا مباشرًا لمسار الحرب، لا مسارًا منفصلًا عنه، وفق ما يقول العارفون، وهو ما يعزّزه “تزامن” التشدد المالي ضدّ الحزب، مع رفع إسرائيل مستوى “التهويل بالحرب”، من أجل القبول بنزع سلاح “حزب الله”. وهكذا، يرى كثيرون أنّ الرسالة الأساسية التي تخرج من واشنطن وتُلتقط في تل أبيب تبقى أن الضغط مطلوب اليوم حتى لا يعيد الحزب ترميم قدراته المالية والعسكرية.
بين تفادي الانهيار وامتصاص الضغوط
في مواجهة هذا المسار، يحاول لبنان الرسمي أن يمسك العصا من منتصفها، حيث حرص الرئيس جوزاف عون خلال لقائه وفد الخزانة الأميركية في بيروت على التأكيد أن الدولة تطبّق “بصرامة” إجراءات منع تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، في رسالة مزدوجة، تستهدف تطمين واشنطن والأسواق إلى جدية التزام المصرف المركزي والقطاع المصرفي بالمعايير الدولية، ولكن أيضًا محاولة تجنيب ما تبقى من النظام المالي اللبناني كلفة عقوبات شاملة قد تُقفل ما تبقى من منافذ مع النظام المصرفي العالمي.
غير أن هذه المقاربة الدفاعية تصطدم بواقع داخلي بالغ الهشاشة. فالقدرة على التفريق بين “معاقبة حزب الله” و”معاقبة بيئته والاقتصاد اللبناني ككل” تكاد تكون نظرية في بلد تحوّل إلى اقتصاد نقدي خارج المصارف، وحيث تداخلت شبكات الحزب الاقتصادية مع تفاصيل الحياة اليومية في الضاحية والجنوب والبقاع. وبالتالي فإنّ كل تشدد أميركي إضافي في ملاحقة التحويلات والشركات والمموّلين لا ينعكس فقط على قدرة الحزب على تمويل أنشطته العسكرية، بل يضرب أيضًا شبكات الخدمات الاجتماعية التي اعتمدت عليها شرائح واسعة بعد الانهيار المالي في 2019.
بالنسبة إلى “حزب الله” نفسه، تُقرأ الحملة الأميركية-الإسرائيلية كجزء من مشروع أوسع لاستكمال ما عجزت عنه الحروب المباشرة، أي انتزاع السلاح عبر الخنق المالي، ولذلك يركّز خطاب الحزب العلني على الصمود وقدرة “اقتصاد المقاومة” على التكيّف. لكن هذه المرونة لا تُخفي أن الكلفة ترتفع، ولا سيما أنّ ورشة إعادة الإعمار لم تبدأ بعد، فيما يتصاعد تحدي الحفاظ على تماسك القاعدة الشعبية في ظل الضائقة المعيشية.
هنا، تبدو المفارقة الأكثر حدة: كلما تشددت واشنطن في استهداف قنوات التمويل الرسمية وشبه الرسمية، ازداد الميل إلى توسيع الاعتماد على الاقتصاد الموازي غير الخاضع للرقابة، من تحويلات نقدية وشبكات “حوالة” وصناديق مغلقة، ما يفاقم تآكل الدولة ويقلّص قدرة المصرف المركزي والأجهزة الرقابية على الإمساك بحركة الأموال. بهذا المعنى، فإن جزءًا من أدوات الضغط المالي التي يُفترض أن تعزّز الدولة في مواجهة “حزب الله” قد ينتهي عمليًا إلى إضعافها أكثر، وترك الساحة للاقتصاد الرمادي الذي يجيده الحزب ويعرف كيف يتحرك ضمنه.
تتعامل واشنطن وتل أبيب مع اللحظة الراهنة بوصفها نافذة نادرة لفرض أثمان باهظة على “حزب الله” ماديًا وعسكريًا، ومحاولة دفعه إلى مراجعة موقعه وسلاحه قبل أن يستعيد أنفاسه بعد حرب 2023–2024. وفيما يتصرف لبنان الرسمي من موقع مَن يحاول تجنّب الانفجار الشامل في النظام المالي والسياسي، يسعى الحزب إلى امتصاص الضغوط وإعادة تدوير شبكات تمويله.لكن ما يغيب عن النقاش الجدّي هو سؤال القدرة على التحكّم بالنتائج، فهل ينفع خنق “حزب الله” ماليًا من دون مسار سياسي داخلي واضح، وهل يُدفَع الحزب في نهاية المطاف إلى تقديم تنازلات في ملف السلاح؟

