من جديد، يجد الجنوب نفسه في واجهة الاشتباك المفتوح بين “المعادلة الدفاعية” التي يتمسّك بها “حزب الله”، ومحاولة إسرائيل إعادة تعريف “قواعد اللعبة”، وهو ما تجلّى بعودتها إلى سياسة “الإنذارات المسبقة” لترويع الآمنين، وذلك في سياق الحرب النفسية التي يبدو أنّ اللاعب الإسرائيلي يراهن عليها في هذه المرحلة، بدليل التهديدات بالحرب التي دفعت ببعض قادة العدو إلى التلويح بعدم وجود أماكن محصَّنة هذه المرّة، حتى في العاصمة بيروت.
وإذا كانت التهديدات الإسرائيلية بالذهاب إلى الحرب، أو ما يسمّيها الإعلام العبري بـ”المعركة الأخيرة” في الشمال، بلغت ذروتها، مع الضخّ الإعلامي والسياسي الذي تعتمده تل أبيب للحديث عن بدء “حزب الله” ترميم قدراته، بما يبرّر ربما الحرب عليه، إذا لم يرضخ لمطالب سحب السلاح سريعًا، فإنّ العنصر المستجدّ على المشهد تمثّل في الكتاب المفتوح الذي وجّهه الحزب إلى اللبنانيين، وأكد فيه تمسّكه بسلاحه، رافضًا ما وصفها بـ”أفخاخ التفاوض” مع إسرائيل.
وبين هاتين الرسالتين، يتحرّك الداخل اللبناني رسميًا على خطّ ثالث عنوانه “حصرية السلاح” التي تصرّ الحكومة على استكمال إجراءاتها، وقد استعرضت في جلستها الأخيرة التقرير الشهري لقيادة الجيش حول التقدّم الذي حقّقه على صعيد تطبيق الخطة، وهو تقدّم لا يشوّش عليه سوى الاحتلال الإسرائيلي لعدد من النقاط الاستراتيجيّة، ما يطرح السؤال: هل نحن أمام جولة كباش على شروط التسوية المقبلة، أم أنّ رسائل الساعات الأخيرة لن تفضي إلا إلى الحرب؟!
“حزب الله” متمسّك بالسلاح
في “الكتاب المفتوح” الذي وجّهه حزب الله إلى الرؤساء الثلاثة واللبنانيين، حرص على تثبيت جملة ثوابت في ضوء نقاشات الأيام الأخيرة التي حُمِّل فيها الحزب ما يفوق طاقته، ونُسِبَت إليه مواقف لم يتّخذها، فالحزب أراد أن يؤكد بما لا يحتمل اللبس رفضه انخراط لبنان في أيّ “تفاوض سياسي” مع إسرائيل، معتبرًا أنّ المطلوب إلزام إسرائيل بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، وليس الخضوع لابتزازها، بفرض شروطٍ لم ينصّ عليها الاتفاق، من نوع نزع السلاح.
وبموازاة رفض مبدأ المفاوضات، أو ما سمّاها “الأفخاخ التفاوضية”، قبل تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار في المقام الأول، كان واضحًا أنّ الحزب أراد من كتابه أن يؤكد مرة أخرى للقاصي والداني عدم موافقته على مبدأ نزع السلاح، وهو تعمّد الإشارة إلى أنّ “حصر السلاح بيد الدولة” يمكن أن يكون جزءًا من البحث في استراتيجية دفاعية وطنية عندما يحين توقيت ذلك، ولكن من غير المقبول أن يُطرَح تحت الضغط، واستجابة لإملاءات واشنطن وتل أبيب.
ومع تأكيد الحزب على “الحق المشروع” بالمقاومة، تُظهِر القراءة السياسية لكتابه أنّ رسائله كانت موجّهة إلى الموفدين الدوليين، ولا سيما الأميركيين منهم، قبل الداخل الرسمي والقوى السياسية اللبنانية، وقد تعمّد القول إنّ النقاش حول سلاحه مؤجَّل إلى ما بعد تطبيق تل أبيب للاتفاق. رغم ذلك، تميل بعض القراءات إلى القول بأنّ الحزب لم يقفل الباب على المفاوضات بالمُطلَق، خصوصًا بوجود آليات تفاوض غير مباشرة معتمدة أساسًا.
إسرائيل تردّ “ضمنًا”..
في القراءة السياسية للكتاب المفتوح الذي وجّهه الحزب، يتوقف العارفون أيضًا عند السياق الذي جاء فيه بما حمله من مواقف، قد لا تكون “جديدة” فعليًا، إذا أخِذت لكلّ قضية على حدة، إلا أنّ أهميتها تكمن في التوقيت أو السياق الذي جاءت فيه، بعد ساعات فقط على تسريب معطيات عن “مهلة” قدّمتها واشنطن إلى بيروت لإثبات “جدّيتها” في سحب السلاح، وكذلك قبيل جلسة لمجلس الوزراء كانت “خطة الجيش لحصر السلاح” البند الأول على جدول أعمالها.
وكما جاءت رسائل الحزب من كتابه المفتوح “حازمة”، جاءت الرسائل “المضادة” التي وجّهتها إسرائيل عبر الميدان، حيث اختارت أن تردّ ضمنًا على كتاب الحزب من دون الإشارة إليه، ليس فقط عبر موجة غارات موسّعة على العديد من القرى والبلدات الجنوبية، لا يُفهَم البعد العسكري فيها، ولكن أيضًا عبر “تفعيل” استراتيجية الإنذارات، التي لا تصبّ سوى في خانة تخويف أهل الجنوب وترويعهم، ربما لإبعادهم عن “حزب الله”، وإنهاء فكرة “البيئة الحاضنة”.
ولا يكتمل الردّ الإسرائيلي الضمني على كتاب “حزب الله” من دون المرور بالتهديدات التي تتصاعد يومًا بعد يوم، وأحدثها تسريبات عن مسؤولين عسكريين يؤكدون أنّ الهجمات الأخيرة ليست سوى “مقدّمة”، وأنّ إسرائيل قد تتّجه إلى هجمات “أوسع” يمكن أن تصل حتى بيروت، في تصعيد واضح للسقف يرى فيه كثيرون ضغطًا غير مباشر على الدولة اللبنانية، مفاده أن تأخير حسم ملف سحب السلاح قد يفتح الباب أمام جولات قتالية أشدّ عنفًا في المستقبل القريب.
بين كتاب “حزب الله” وردّ إسرائيل الضمني، يبدو أنّ الثمن الأكبر لن يدفعه سوى جنوب لبنان كالعادة، وهو الذي يُترك، مرة أخرى، في مواجهة مباشرة مع القلق: قلق من أن تتحوّل الإنذارات إلى نزوح جديد، ومن أن تبقى الأسئلة الكبرى حول السلاح والدفاع والتفاوض معلّقة فوق رؤوس الجنوبيين، بدل أن تُناقش بهدوء على طاولة سياسية وطنية. فهل تكون جولة القتال الأخيرة محاولة للذهاب إلى حافة الهاوية لتحسين شروط التسوية المقبلة، أم “بروفا” أو ربما “تحمية” للحرب التي تستدرج إسرائيل لبنان، وتحديدًا “حزب الله”، إليها؟