في لحظة تبدو فيها الجبهة الشمالية على حافة الانفجار، وتتزايد التهديدات الإسرائيلية، إلى جانب التسريبات عن التحضيرات لما باتت توصف في الإعلام العبري بـ”المعركة الأخيرة”، خرج الرئيس اللبناني جوزاف عون ليعلن بوضوح أنّه “ليس أمام لبنان إلا خيار التفاوض” مع إسرائيل، معتبرًا أنّ لغة التفاوض والدبلوماسية باتت أهم من لغة الحرب التي جرّت على اللبنانيين كلفة بشرية ومادية هائلة.
  
صحيح أنّ هذا الموقف الرئاسي ليس الأول من نوعه، إذ سبق لعون أن أعلن في تصريحات سابقة له الشهر الماضي استعداد لبنان للتفاوض مع إسرائيل، مستندًا في ذلك إلى تجربة ترسيم الحدود البحرية التي أُنجزت خلال العهد السابق بنتيجة مفاوضات غير مباشرة برعاية أميركية، إلا أنّ إسرائيل بدت كمن “يجهض” المبادرة، أو يدفنها في مهدها، حين ردّت عليها بالنار، ليعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري حينها سقوط المقترح.
 
اليوم، يعيد الرئيس عون طرح الفكرة في خضمّ التصعيد الميداني الإسرائيلي هذه المرّة، وعلى وقع الضغوط الدولية المتصاعدة لاستكمال تنفيذ القرار 1701 ونزع سلاح “حزب الله”، فيما تبقى المفارقة المثيرة للانتباه في موقف إسرائيل التي تتحدث وسائل إعلامها عن وصول المسار مع لبنان إلى “نقطة اللاعودة”. فهل ينجح الموقف اللبناني المتقدّم في تجنيب البلاد الانفجار المحتّم، أم أنّ الحرب باتت “حتميّة ومسألة وقت” كما يشيع الإسرائيليون؟
 
الخيار الواقعي الوحيد؟
 
بين خطاب رئاسي لبناني يقدّم التفاوض كسبيل وحيد إلى الاستقرار، وخطاب حكومي وإعلامي إسرائيلي يتعامل مع الحرب كقدر مؤجَّل، يجد لبنان نفسه مرة أخرى في قلب تناقضات لا حصر لها. فمن زاوية الدولة اللبنانية، تُقرَأ تصريحات الرئيس جوزاف عون المكرّرة عن التفاوض كرسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أنّ لبنان، الواقع تحت النار والذي يواجه تهديدًا وجوديًا، هو الطرف الذي يبحث مرّة أخرى عن “مخرج آمن” من حلقة الاستنزاف المفتوحة مع إسرائيل.
 
وتبرز هذه الرسالة بوضوح في إصرار عون على أن التفاوض لا يكون مع “صديق أو حليف بل مع عدو”، وأنه يبقى الخيار الواقعي الوحيد، وكأنّ عون الذي يدرك أنّ لبنان لا يتحمّل كلفة حرب إسرائيلية جديدة، وهو الذي لم يطلق ورشة إعادة الإعمار بعد، يسعى لمواكبة الحراك الدبلوماسي الغربي والإقليمي المكثّف بمبادرة يمكن أن يتلقّفها الوسطاء، بما يجنّب البلد الانزلاق إلى حرب جديدة، وذلك تحت سقف استكمال تنفيذ القرار 1701.
 
بهذا المعنى، لا يطرح عون التفاوض كترف دبلوماسي أو بوصفه خيارًا نظريًا، بل كجزء من معادلة دفاعية جديدة يحاول رسمها، بالاستناد إلى “سابقة” ترسيم الحدود البحرية التي يمكن “استنساخها” في سبيل حلّ النقاط المتنازع عليها. من هنا، يعرض الدخول في مفاوضات مقابل أن تتراجع إسرائيل عن منطق “الحرب الحتمية” وتجمّد تصعيدها الميداني، لكنّ المشكلة أنّ الأخيرة لا تتعامل مع هذا الطرح كفرصة لتثبيت تهدئة، بل كفرصة لرفع السقوف وزيادة الضغوط، وفق كل المؤشرات.
 
حزب الله غير معنيّ بالمفاوضات؟
 
على ضفة “حزب الله”، لا يبدو الوقف واضحًا حتى الآن، ما يفسّر تباين التفسيرات والتحليلات، بين من ينقل عنه أنه “غير معني” بأيّ مفاوضات يمكن أن تحصل، تمامًا كما لم يكن معنيًا بورقة المبعوث الأميركي توم براك ولا بغيرها، ومن يرى أنّه ليس متحمّسًا لطرح الرئيس عون، ولو أنه لا يعترض عليه جهارًا للكثير من الأسباب والحسابات، ليبقى الثابت الوحيد أنه متمسّك بالتطبيق الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار الذي لم تلتزم به إسرائيل ولو ليوم واحد.
 
في هذا السياق، يقول العارفون بأدبيّات الحزب إنّ الأخير يرفض من حيث المبدأ فكرة “المفاوضات تحت النار”، باعتبار أنّها تضعف الموقف اللبناني وتحوّل التفاوض إلى امتداد للضغط العسكري الإسرائيلي، لا إلى بديل عنه. ووفقًا لهؤلاء، فإنّ مقاربة الحزب تستند إلى أنّ المطلوب الآن تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار قبل البحث في أيّ خيارات أخرى، وبالتالي فإنّ الخطوة الأولى يجب أن تكون وقف الاعتداءات الإسرائيلية، وبعدها لكلّ حادث حديث.
 
لا يعني ذلك أنّ الحزب سيشهر “الفيتو” في وجه خيار التفاوض مع إسرائيل إذا ما قرّرت الدولة المضيّ به، وهو الذي فوّضها بإدارة مرحلة ما بعد الحرب، من دون أن يردّ على خرق إسرائيلي واحد لاتفاق وقف إطلاق النار. وعلى الرغم من أنّ الحزب سبق أن أبدى انفتاحًا على مفاوضات غير مباشرة، فإنّه يفضّل أن يبقى خارج الصورة المباشرة، تاركًا للرئاسة والحكومة هامش حركة، من دون أن يمنحهما تفويضًا مفتوحًا يمكن أن يُترجم لاحقًا تنازلات على حسابه.
 
في المحصّلة، يقف لبنان اليوم أمام معادلة معقّدة: رئيس الجمهورية يرفع لواء التفاوض ويعلن أنه لا بديل عنه، وإسرائيل تتصرّف وكأن الحرب قادمة لا محالة، وما يجري الآن ليس إلا إدارة للتوقيت وشروط البداية، فيما يبقى موقف “حزب الله” محكومًا بحسابات “ما بعد الحرب” وهواجس استهداف سلاحه ودوره في أيّ تسوية مقبلة. وفي قلب هذه المعادلة، يغيب حتى الآن ما هو أهم: موقف لبناني داخلي موحّد يحدّد سقف التفاوض وحدود التنازل وخطوط الردع في آن واحد، موقف قد يكون بمثابة “الحدّ الأدنى” الضروري كي لا يتحوّل خيار التفاوض الذي يطرحه عون إلى مجرّد ورقة في لعبة الوقت التي تديرها تل أبيب…
صحيح أنّ هذا الموقف الرئاسي ليس الأول من نوعه، إذ سبق لعون أن أعلن في تصريحات سابقة له الشهر الماضي استعداد لبنان للتفاوض مع إسرائيل، مستندًا في ذلك إلى تجربة ترسيم الحدود البحرية التي أُنجزت خلال العهد السابق بنتيجة مفاوضات غير مباشرة برعاية أميركية، إلا أنّ إسرائيل بدت كمن “يجهض” المبادرة، أو يدفنها في مهدها، حين ردّت عليها بالنار، ليعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري حينها سقوط المقترح.
اليوم، يعيد الرئيس عون طرح الفكرة في خضمّ التصعيد الميداني الإسرائيلي هذه المرّة، وعلى وقع الضغوط الدولية المتصاعدة لاستكمال تنفيذ القرار 1701 ونزع سلاح “حزب الله”، فيما تبقى المفارقة المثيرة للانتباه في موقف إسرائيل التي تتحدث وسائل إعلامها عن وصول المسار مع لبنان إلى “نقطة اللاعودة”. فهل ينجح الموقف اللبناني المتقدّم في تجنيب البلاد الانفجار المحتّم، أم أنّ الحرب باتت “حتميّة ومسألة وقت” كما يشيع الإسرائيليون؟
الخيار الواقعي الوحيد؟
بين خطاب رئاسي لبناني يقدّم التفاوض كسبيل وحيد إلى الاستقرار، وخطاب حكومي وإعلامي إسرائيلي يتعامل مع الحرب كقدر مؤجَّل، يجد لبنان نفسه مرة أخرى في قلب تناقضات لا حصر لها. فمن زاوية الدولة اللبنانية، تُقرَأ تصريحات الرئيس جوزاف عون المكرّرة عن التفاوض كرسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أنّ لبنان، الواقع تحت النار والذي يواجه تهديدًا وجوديًا، هو الطرف الذي يبحث مرّة أخرى عن “مخرج آمن” من حلقة الاستنزاف المفتوحة مع إسرائيل.
وتبرز هذه الرسالة بوضوح في إصرار عون على أن التفاوض لا يكون مع “صديق أو حليف بل مع عدو”، وأنه يبقى الخيار الواقعي الوحيد، وكأنّ عون الذي يدرك أنّ لبنان لا يتحمّل كلفة حرب إسرائيلية جديدة، وهو الذي لم يطلق ورشة إعادة الإعمار بعد، يسعى لمواكبة الحراك الدبلوماسي الغربي والإقليمي المكثّف بمبادرة يمكن أن يتلقّفها الوسطاء، بما يجنّب البلد الانزلاق إلى حرب جديدة، وذلك تحت سقف استكمال تنفيذ القرار 1701.
بهذا المعنى، لا يطرح عون التفاوض كترف دبلوماسي أو بوصفه خيارًا نظريًا، بل كجزء من معادلة دفاعية جديدة يحاول رسمها، بالاستناد إلى “سابقة” ترسيم الحدود البحرية التي يمكن “استنساخها” في سبيل حلّ النقاط المتنازع عليها. من هنا، يعرض الدخول في مفاوضات مقابل أن تتراجع إسرائيل عن منطق “الحرب الحتمية” وتجمّد تصعيدها الميداني، لكنّ المشكلة أنّ الأخيرة لا تتعامل مع هذا الطرح كفرصة لتثبيت تهدئة، بل كفرصة لرفع السقوف وزيادة الضغوط، وفق كل المؤشرات.
حزب الله غير معنيّ بالمفاوضات؟
على ضفة “حزب الله”، لا يبدو الوقف واضحًا حتى الآن، ما يفسّر تباين التفسيرات والتحليلات، بين من ينقل عنه أنه “غير معني” بأيّ مفاوضات يمكن أن تحصل، تمامًا كما لم يكن معنيًا بورقة المبعوث الأميركي توم براك ولا بغيرها، ومن يرى أنّه ليس متحمّسًا لطرح الرئيس عون، ولو أنه لا يعترض عليه جهارًا للكثير من الأسباب والحسابات، ليبقى الثابت الوحيد أنه متمسّك بالتطبيق الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار الذي لم تلتزم به إسرائيل ولو ليوم واحد.
في هذا السياق، يقول العارفون بأدبيّات الحزب إنّ الأخير يرفض من حيث المبدأ فكرة “المفاوضات تحت النار”، باعتبار أنّها تضعف الموقف اللبناني وتحوّل التفاوض إلى امتداد للضغط العسكري الإسرائيلي، لا إلى بديل عنه. ووفقًا لهؤلاء، فإنّ مقاربة الحزب تستند إلى أنّ المطلوب الآن تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار قبل البحث في أيّ خيارات أخرى، وبالتالي فإنّ الخطوة الأولى يجب أن تكون وقف الاعتداءات الإسرائيلية، وبعدها لكلّ حادث حديث.
لا يعني ذلك أنّ الحزب سيشهر “الفيتو” في وجه خيار التفاوض مع إسرائيل إذا ما قرّرت الدولة المضيّ به، وهو الذي فوّضها بإدارة مرحلة ما بعد الحرب، من دون أن يردّ على خرق إسرائيلي واحد لاتفاق وقف إطلاق النار. وعلى الرغم من أنّ الحزب سبق أن أبدى انفتاحًا على مفاوضات غير مباشرة، فإنّه يفضّل أن يبقى خارج الصورة المباشرة، تاركًا للرئاسة والحكومة هامش حركة، من دون أن يمنحهما تفويضًا مفتوحًا يمكن أن يُترجم لاحقًا تنازلات على حسابه.
في المحصّلة، يقف لبنان اليوم أمام معادلة معقّدة: رئيس الجمهورية يرفع لواء التفاوض ويعلن أنه لا بديل عنه، وإسرائيل تتصرّف وكأن الحرب قادمة لا محالة، وما يجري الآن ليس إلا إدارة للتوقيت وشروط البداية، فيما يبقى موقف “حزب الله” محكومًا بحسابات “ما بعد الحرب” وهواجس استهداف سلاحه ودوره في أيّ تسوية مقبلة. وفي قلب هذه المعادلة، يغيب حتى الآن ما هو أهم: موقف لبناني داخلي موحّد يحدّد سقف التفاوض وحدود التنازل وخطوط الردع في آن واحد، موقف قد يكون بمثابة “الحدّ الأدنى” الضروري كي لا يتحوّل خيار التفاوض الذي يطرحه عون إلى مجرّد ورقة في لعبة الوقت التي تديرها تل أبيب…

