الأجواء التي عاشها لبنان قبل أن تقرّر إسرائيل الانتقال من حرب ما كان يُسمّى بـ “قواعد الاشتباك” إلى الحرب الواسعة والمدّمرة هي ذاتها التي يعيشها اليوم. قبل سنة وعدّة أشهر لم يكن اسما توم برّاك ومورغان اورتاغوس قد ظهرا إلى العلن، وكان آموس هوكشتاين يتولى لوحده مهمة نقل الرسائل الأميركية إلى المسؤولين الأميركيين، وهي رسائل لم تكن في حاجة إلى منجّم مغربي لمعرفة ما فيها من تحذيرات سرعان ما تحّولت إلى واقع مرير على أرض الجنوب وفي الضاحية الجنوبية لبيروت وفي البقاع.
كان الأميركيون يقولون للمسؤولين اللبنانيين بأن إسرائيل جادّة في نقل معركة “قواعد الاشتباك” إلى مكان آخر، فيما كان اللبنانيون يسمعون بعض الأصوات، التي كانت تصف قوة العدو الإسرائيلي بأوهى من خيوط العنكبوت، وبأنه غير قادر على شن حرب واسعة لأن المقاومة الإسلامية” جاهزة لردّ أي عدوان على لبنان، وأنها قادرة على دحره وإنزال أفدح الخسائر في صفوفه، وفي العمق الإسرائيلي، إلى أن توقفّت الاعتداءات الواسعة بعدما توصّل هوكشتاين إلى إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار، الذي لم تتقيد به تل أبيب بعد مرور سنة تقريبًا من هذا الاتفاق، الذي أُعطي أكثر من تفسير.
وفي موازاة استمرار المسيرات الإسرائيلية في استهداف عناصر تابعة لـ “حزب الله” أو لمواقع له تدّعي الحكومة الإسرائيلية بأنها مخازن أسلحة، يشتدّ الضغط الديبلوماسي على لبنان، وهو ضغط مزدوج، يهدف إلى حضّ الحكومة على تسريع ترجمة قراراتها بخطوات ميدانية لجهة احتواء سلاح “حزب الله” أو أي سلاح غير شرعي آخر كمقدمة لازمة لإعادة التوازن إلى الحياة السياسية وإلى وضع عربة مؤسسات الدولة على السكّة السوية، على أن يتمّ الانتقال إلى مرحلة متقدمة من خوض لبنان تجربة المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل في محاولة لإعادة إحياء العمل باتفاق الهدنة. ولكن دون تحقيق هاتين الخطوتين عثرات لها علاقة مباشرة بالتوازنات السياسية الداخلية وهشاشة التركيبة اللبنانية، إضافة إلى اشتراط لبنان أن تلتزم إسرائيل ببنود وقف إطلاق النار، وذلك عبر وقف اعتداءاتها اليومية وانسحابها من التلال الخمس. ومن دون هذين الشرطين يبقى موضوع “حصرية السلاح” يراوح مكانه، وهذا ما أشار إليه التقرير الشهري الثاني لقيادة الجيش، التي أكّدت أن بقاء الجيش الإسرائيلي في الأراضي اللبنانية المحتلة واستمرار اعتداءاته من شأنهما إبطاء عمل الجيش وفق ما جاء في الخطّة العسكرية في مرحلتها الأولى جنوب نهر الليطاني.
لكن يبدو أن ما يطالب به لبنان لا يلقى أذانًا صاغية. والدليل ما يصل إلى مسامع المسؤولين اللبنانيين من تحذيرات عن احتمال قيام إسرائيل بحرب قد تكون شبيهة بالحرب الأخير ة، إن لم تكن أوسع وأشدّ ضررًا، خصوصًا أن ما ورد في بيان “حزب الله” عن جهوزيته الكاملة للمواجهة، وعن استعادته لقدراته العسكرية، قد أعطى انطباعًا لدى بعض الأوساط الديبلوماسية بأن هذه التحذيرات قد تأخذ طابعًا آخر. ولم تخفِ هذه الأوساط خشيتها من أن تكون إيران هي التي دفعت القيادة السياسية في “الحزب” لاتخاذ هذا الموقف التصعيدي، وهذا ما يفسّر الاستعجال في اللجوء إلى إصدار هذا البيان، إذ كان في الإمكان انتظار أول إطلالة للشيخ نعيم قاسم، الذي اعتاد أن تكون له مواقف سياسية عالية السقف في مثل هذه الظروف الحسّاسة والخطيرة.
ما يُفهم من الرسائل الأميركية والغربية التي تصل إلى المسؤولين أن لبنان لن يشهد أي انفراج سياسي أو اقتصادي أو حتى أمني ما لم يذهب بعيدًا في موضوعي “حصرية السلاح” والمفاوضات مع إسرائيل، وبالتالي العمل على حسر النفوذ الإيراني على الساحة اللبنانية.
ولكن هذه المواضيع الثلاثة الشائكة تتطلب أول ما تتطلب توافقًا داخليًا غير متوافر حتى إشعار آخر.
المصدر: Lebanon24