المرجعية الكونية بسيطة: العالم يُوزن على توقيت عالمي منسّق يُعرف بـUTC، والدول تُعلن فروقها عنه. لبنان يعمل شتاءً على UTC+2 وصيفًا على UTC+3. خلف هذه المعادلة الواضحة شبكة من الإجراءات تبدأ من رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء، مرورًا بالوزارات والهيئات الناظمة، وصولًا إلى شركات الطيران والمصارف ومزوّدي الاتصالات والإعلام. وفي خلفية الخلفية قاعدة بيانات عالمية للمناطق الزمنية تُعرف بـIANA tz database، تعتمدها أنظمة التشغيل والهواتف والخوادم. أي تعديل مفاجئ في موعد التحويل يحتاج إلى تحديثات تقنية تسبق اللحظة الصفر، وإلّا ظهر الفارق المؤلم بين “ساعة الأجهزة” و“الساعة الرسمية”. هنا بالتحديد يتجلّى الفرق بين دولة تُحسن الإدارة وأخرى تجعل الوقت مادة للتجربة.
الحجّة التقليدية للتوقيت الصيفي معروفة: تمديد ساعات الضوء المسائي لتشجيع النشاط الاجتماعي والاقتصادي وتقليص جزء من فاتورة الإنارة. لكن القول بوفوراتٍ كبيرة لم يعد دقيقًا في بيئة تغيّرت فيها سلوكيات الاستهلاك وتوسّعت فيها إنارة LED، وتزاوجت فيها كهرباء الدولة مع اشتراكات المولّدات. الأثر اليوم تراكمي وسلوكي أكثر منه قفزة فورية في الفاتورة. مع ذلك، يبقى للساعة الإضافية في الصيف معنى اقتصادي واجتماعي واضح: أمسية أطول على الكورنيش، حركة أوسع في المطاعم والمقاهي، قدرة أكبر على برمجة نشاطات بعد دوام العمل، وكلّها تدفق نقدي صغير لكنه محسوس لاقتصاد المدن والسياحة الداخلية. أما العودة إلى التوقيت الشتوي فتعيد الصباح إلى نوره الطبيعي وتخفّف “سحبة” الشروق المتأخر، لكنّها تتطلّب أسبوع تكيّف في المدارس والدوامات وتخطيطًا هادئًا لتفادي التأخير القسري.
الدرس الأثمن جاء من موسم الارتباك الذي عرفه اللبنانيون حين اختلفت الساعات بين الأجهزة والقرارات. اتّضح حينها أن الثقة الزمنية مثل الثقة النقدية: تنكسر بسرعة وتحتاج وقتًا كي تُرمَّم. المسافر الذي يفوته طائرته لأن تطبيق الحجز اعتمد قاعدة زمنية مغايرة، والمصرفي الذي يصطدم بخلل في ختم الوقت خلال المقاصة اليومية، والمخرج التلفزيوني الذي يكتشف أن بثّ المباراة بدأ قبل أن تنتقل شاشته إلى “الساعة الجديدة”… هؤلاء كلّهم ضحايا فجوة صغيرة في التنسيق تحوّلت خلال ساعات إلى فوضى وطنية. ما الذي يقي من هذا المشهد؟ ببساطة، إعلان حكومي مبكّر يحدّد التاريخ والساعة قبل أسابيع، ورسالة تقنية موحّدة إلى القطاعات الحسّاسة، ونافذة زمنية قصيرة تسمح بتحديث الأنظمة قبل لحظة التحويل. بعدها، يصبح يوم الأحد الموعود عابرًا، وتغدو “الساعة الثالثة” بدل “الثانية” مجرّد سطر في سجل الأنظمة لا مادّة جدل على الشاشات.
الاقتصاد الزمني لا يقف عند المزاج والحياة اليومية. الطيران يُدار على جداول دقيقة، وكل حركة في التوقيت تقتضي إعادة مواءمة في أنظمة الحجز والإعلام للمسافرين وتبادل رسائل الملاحة الجوية. المصارف تختم أيامها على طوابع زمنية ثابتة، وأي دقيقة ضائعة قد تعرقل دورات مقاصة وتحويلات. الإعلام المباشر والرياضة العالمية واللقاءات الافتراضية العابرة للقارات كلها تحتاج توحيدًا محكمًا للساعة المحلية مع توقيت الشركاء. حتى المستشفيات والجامعات تعتمد على دقة التحويل كي لا تتداخل مواعيد العمليات والامتحانات وجداول النقل.
باختصار، التوقيت بنية تحتية غير مرئية؛ حين تعمل بسلاسة لا يشعر بها أحد، وحين تتعطل يُصاب النهار كلّه بالارتباك.
يبقى السؤال الذي يطفو كل عام: هل يجب أن نثبّت توقيتًا واحدًا طوال السنة وننهي “صداع التحويل”؟ التجارب العالمية متباينة، وحجج المؤيدين والمعارضين مفهومة. التثبيت يمنح روتينًا اجتماعيًا ومدرسيًا أكثر ثباتًا ويزيل مخاطره التقنية، لكنه يوسّع الفجوة موسمًا مع دول تستمر في التحويل، ما يفرض كلفة مواءمة دائمة على الطيران والبثّ والشركات المتصلة بالأسواق الخارجية. فوق ذلك، يحمل الثمن الاجتماعي الخاص به: إمّا مساءات صيفية أقصر ضوءًا إذا ثُبّت التوقيت الشتوي، وإمّا صباحات شتائية أكثر ظلامًا إذا ثُبّت الصيفي، وكلا الخيارين له أثر على السلامة والطاقة والإنتاجية. لذلك، لا يُحسم الجواب بالشعور وحده. يحتاج لبنان إلى تقييم كمي رصين: قياس أثر كل سيناريو على أحمال الكهرباء الرسمية والمولدات، وعلى كلفة قطاع الطيران، وعلى انتظام المرافق العامة والتعليم، ثم اتخاذ قرار مُعلَّل يُبلَّغ باكرًا ويُنفّذ بصرامة.
في العمق، ما يريده اللبناني من دولته ليس “هوية زمنية” بقدر ما يريد اتساقًا في الإيقاع. الزمن عقد اجتماعي وتقني في آن. حين تُحكمه الحكومة كسياسة عامة— من قرار مبكّر إلى تنسيق عابر للقطاعات إلى تواصل واضح مع الناس— يتحوّل التحويل الموسمي إلى تفصيل إداري لا مادة تجاذب. وحين يُترك الوقت للاجتهادات، تصبح الساعة مرآة لعجزٍ أوسع من ستين دقيقة. يمكن للبنان بكلفة شبه صفرية أن يربح ثقة يومية: أن تعرف المدرسة متى تُسيّر باصاتها، وأن تطمئن الشركة إلى ختم وقت معاملات زبائنها، وأن يسافر الراكب وهو واثق من ساعة إقلاعه لا من ساعة هاتفه. عندها فقط، تستعيد عقاربنا قيمتها الفعلية: أداة دقيقة في دولة تنظر إلى الزمن بما هو عليه— بنية نظام، لا مناسبة للدراما.

