توقيتٌ مثقل بالرسائل اختاره الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم في “يوم الشهيد”، وهو الذي يأتي بعد عام تقريبًا على ما سُمّي باتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، وفي لحظة ترتفع فيها وتيرة الخروقات، ويتقدّم فيها النقاش الداخلي حول حصرية السلاح وخطط الجيش لحصره جنوب الليطاني بحلول نهاية العام، وهو الموعد الذي تشير تسريبات إلى أنّه حُدّد للتصعيد العسكري في حال لم يحقّق المسار الدبلوماسي تقدّمًا ملموسًا قبل ذلك.
في هذا السياق المتوتر، وما يترتّب عليه من ضغوط متزايدة على لبنان من أجل إعادة صياغة معادلات مرحلة ما بعد طوفان الأقصى، حاول الشيخ قاسم إرساء توازن في خطابه بين رفضه المساس بسلاح المقاومة، وركونه إلى الدولة في معالجة الخروقات والاعتداءات الإسرائيلية، والتمسّك بنصّ الاتفاق الذي يتضمن انتشار الجيش في مناطق جنوب الليطاني، مقابل انسحاب مقاتلي الحزب منها، ولا يشترط لوقف النار نزع سلاح الحزب مثلاً.
ثمة من يقول إنّ “حزب الله” وافق على تقديم بعض التنازلات، مقابل وقف الحرب وانسحاب إسرائيل من النقاط المحتلة، وهو ما لم يتحقق، فيما تتراكم الأرقام عن آلاف الخروقات الإسرائيلية للاتفاق من دون ردّ. فهل يدفع خطاب قاسم نحو تشديد المواجهة ورفع منسوب التوتّر على الجبهة، أم أنّه محاولة لإعادة ضبط قواعد الاشتباك، عبر وضع سقف سياسي للضغوط الأميركية والإسرائيلية على الحكومة والجيش، من دون الانزلاق إلى حرب شاملة جديدة في الجنوب؟
دعم مشروط لخطة الدولة
لعل أبرز ما في خطاب الشيخ نعيم قاسم في “يوم الشهيد”، أنه لم يهاجم مبدأ خطة الدولة لاستعادة السيادة، بل طالب بخطة زمنية واضحة تنفّذها القوى الأمنية والجيش، بدل أن تُترك الضغوط الدولية لتفرض أجندتها على الحكومة. هو بذلك يميّز بين استعادة الدولة لدورها في الجنوب، وبين تحويل هذا الدور إلى أداة لنزع سلاح “حزب الله” أو وضع الجيش في مواجهة “مجتمعه المقاوم”.
هنا، تبدو الرسالة موجهة إلى القوى السياسية التي تبني خطابها على ربط أي استقرار بحصر السلاح، وإلى عواصم تعتبر أن تنفيذ الخطة يجب أن يبدأ عمليًا من ضبط نفوذ الحزب. ولذلك بالتحديد، يظهر قاسم اليوم وكأنه يضع حدودًا لما يمكن أن يقدّمه الحزب من “تسهيلات” في هذا المسار، وهو الذي يكرّر تلميحًا وجهارًا، بأنّ أيّ نقاش داخلي حول الاستراتيجية الدفاعية، بما في ذلك مستقبل السلاح، يبقى مؤجّلاً إلى ما بعد تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار كاملاً.
بهذه الصيغة، يحاول الحزب سحب ملف سلاحه من طاولة التفاوض الحالية، إن جاز التعبير، وبالتالي حصر النقاش في مدى التزام العدو بوقف إطلاق النار وقرار مجلس الأمن 1701، في وقت تتكثّف فيه الضغوط الخارجية لربط خروج إسرائيل من الجنوب بضمانات لبنانية إضافية تتخطى نص الاتفاق، وهو ما يرفضه الحزب، الذي يعتبر أنّ الخطوة الأولى تبقى أن تطبّق إسرائيل الاتفاق الذي وقّعت عليه بنفسها، وبعدها يصبح لكلّ حادث حديث.
رسائل إلى واشنطن وتل أبيب
في هذا الجو، يأتي كلام قاسم كنوع من “التفويض المشروط”: تأييدٌ معلن لتحمّل الدولة مسؤولياتها، مقرون برسالة واضحة بأن السلاح سيبقى خارج أي مقايضة، وأن المقاومة تعتبر نفسها مظلّة حماية للدولة لا العكس. على الضفة المقابلة، حمل الخطاب رسالة حاسمة بأن اتفاق وقف إطلاق النار غير قابل لإعادة التفاوض، وأنه “محصور بجنوب الليطاني” وأن لا استبدال له ولا “إبراء ذمة” للاحتلال باتفاق جديد.
هو بذلك لا يرفض المقاربة الإسرائيلية التي تحاول ربط الانسحاب الكامل من الجنوب بحزمة شروط إضافية فحسب، ولكنه أيضًا يغلق الباب أمام أي محاولة لتحويل الهدنة إلى نقطة انطلاق لمسار تفكيك قوة الحزب على مراحل، ولو على حساب استمرار التوتر الحدودي. وبالتوازي مع ذلك، يضع الولايات المتحدة في قلب الاشتباك السياسي، فهو يتهمها بممارسة “وصاية مباشرة” على الحكومة اللبنانية، وباستخدام سلاح المساعدات وتسليح الجيش كأداة للضغط.
كلّ ذلك يحدث فيما إسرائيل تواصل التصعيد بعد عام على اتفاق وقف إطلاق النار، كما لو أنه لم يكن، بالتوازي مع التلويح بتوسيع القتال مرّة أخرى، وكلّها وقائع تكرّس شعورًا لبنانيًا، وخصوصًا لدى جمهور الحزب، بأن إسرائيل تستخدم وقف إطلاق النار لتكريس وقائع جديدة لا تقل خطورة عن مرحلة الحرب نفسها. وهنا، يكتسب شعار قاسم “لكل شيء حدّ” بعدًا ردعيًا أكثر منه دعوة فورية إلى الحرب.
باختصار، يلوّح الشيخ قاسم بأن الصبر على الخروقات لن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن الحزب مستعد للعودة إلى الميدان إذا ما تواصل “الخطر الوجودي” على لبنان. لكنّه في الوقت نفسه، لا يعلن أي مسار تصعيدي محدّد، بل يربط كل شيء بسلوك إسرائيل والتفاهمات حول تنفيذ الاتفاق. النتيجة عمليًا هي تثبيت حالة “اللاحرب – اللاسلم” الحالية، مع رفع كلفة الضغط على الحكومة عبر إدخال العامل الأمني مجددًا إلى حسابات الدبلوماسية.
في النتيجة، لا يسرّع خطاب الشيخ قاسم الحرب بقدر ما يعيد ترتيب شروط اللاسلم الحالية. الرسالة الأساسية إلى واشنطن وتل أبيب هي أنّ الضغط السياسي والاقتصادي لن يُنتج استسلامًا لبنانيًا، وأن أي تسوية دائمة للحدود لن تمرّ فوق رأس المقاومة أو على حسابها. والرسالة إلى الداخل أنّ الدولة مدعوّة إلى استعادة سيادتها فعلاً، لكن من بوابة إلزام إسرائيل بالانسحاب ووقف الخروقات، لا من بوابة تحويل الجيش إلى بديل عن معادلة الردع.
وبين هاتين الرسالتين، يبقى هامش الخطأ ضيّقًا؛ فأي سوء تقدير على الجبهة أو في كواليس التفاوض قد يحوّل عبارة “لكل شيء حدّ” من تحذير سياسي إلى مقدمة لجولة جديدة من النار في الجنوب.
في هذا السياق المتوتر، وما يترتّب عليه من ضغوط متزايدة على لبنان من أجل إعادة صياغة معادلات مرحلة ما بعد طوفان الأقصى، حاول الشيخ قاسم إرساء توازن في خطابه بين رفضه المساس بسلاح المقاومة، وركونه إلى الدولة في معالجة الخروقات والاعتداءات الإسرائيلية، والتمسّك بنصّ الاتفاق الذي يتضمن انتشار الجيش في مناطق جنوب الليطاني، مقابل انسحاب مقاتلي الحزب منها، ولا يشترط لوقف النار نزع سلاح الحزب مثلاً.
ثمة من يقول إنّ “حزب الله” وافق على تقديم بعض التنازلات، مقابل وقف الحرب وانسحاب إسرائيل من النقاط المحتلة، وهو ما لم يتحقق، فيما تتراكم الأرقام عن آلاف الخروقات الإسرائيلية للاتفاق من دون ردّ. فهل يدفع خطاب قاسم نحو تشديد المواجهة ورفع منسوب التوتّر على الجبهة، أم أنّه محاولة لإعادة ضبط قواعد الاشتباك، عبر وضع سقف سياسي للضغوط الأميركية والإسرائيلية على الحكومة والجيش، من دون الانزلاق إلى حرب شاملة جديدة في الجنوب؟
دعم مشروط لخطة الدولة
لعل أبرز ما في خطاب الشيخ نعيم قاسم في “يوم الشهيد”، أنه لم يهاجم مبدأ خطة الدولة لاستعادة السيادة، بل طالب بخطة زمنية واضحة تنفّذها القوى الأمنية والجيش، بدل أن تُترك الضغوط الدولية لتفرض أجندتها على الحكومة. هو بذلك يميّز بين استعادة الدولة لدورها في الجنوب، وبين تحويل هذا الدور إلى أداة لنزع سلاح “حزب الله” أو وضع الجيش في مواجهة “مجتمعه المقاوم”.
هنا، تبدو الرسالة موجهة إلى القوى السياسية التي تبني خطابها على ربط أي استقرار بحصر السلاح، وإلى عواصم تعتبر أن تنفيذ الخطة يجب أن يبدأ عمليًا من ضبط نفوذ الحزب. ولذلك بالتحديد، يظهر قاسم اليوم وكأنه يضع حدودًا لما يمكن أن يقدّمه الحزب من “تسهيلات” في هذا المسار، وهو الذي يكرّر تلميحًا وجهارًا، بأنّ أيّ نقاش داخلي حول الاستراتيجية الدفاعية، بما في ذلك مستقبل السلاح، يبقى مؤجّلاً إلى ما بعد تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار كاملاً.
بهذه الصيغة، يحاول الحزب سحب ملف سلاحه من طاولة التفاوض الحالية، إن جاز التعبير، وبالتالي حصر النقاش في مدى التزام العدو بوقف إطلاق النار وقرار مجلس الأمن 1701، في وقت تتكثّف فيه الضغوط الخارجية لربط خروج إسرائيل من الجنوب بضمانات لبنانية إضافية تتخطى نص الاتفاق، وهو ما يرفضه الحزب، الذي يعتبر أنّ الخطوة الأولى تبقى أن تطبّق إسرائيل الاتفاق الذي وقّعت عليه بنفسها، وبعدها يصبح لكلّ حادث حديث.
رسائل إلى واشنطن وتل أبيب
في هذا الجو، يأتي كلام قاسم كنوع من “التفويض المشروط”: تأييدٌ معلن لتحمّل الدولة مسؤولياتها، مقرون برسالة واضحة بأن السلاح سيبقى خارج أي مقايضة، وأن المقاومة تعتبر نفسها مظلّة حماية للدولة لا العكس. على الضفة المقابلة، حمل الخطاب رسالة حاسمة بأن اتفاق وقف إطلاق النار غير قابل لإعادة التفاوض، وأنه “محصور بجنوب الليطاني” وأن لا استبدال له ولا “إبراء ذمة” للاحتلال باتفاق جديد.
هو بذلك لا يرفض المقاربة الإسرائيلية التي تحاول ربط الانسحاب الكامل من الجنوب بحزمة شروط إضافية فحسب، ولكنه أيضًا يغلق الباب أمام أي محاولة لتحويل الهدنة إلى نقطة انطلاق لمسار تفكيك قوة الحزب على مراحل، ولو على حساب استمرار التوتر الحدودي. وبالتوازي مع ذلك، يضع الولايات المتحدة في قلب الاشتباك السياسي، فهو يتهمها بممارسة “وصاية مباشرة” على الحكومة اللبنانية، وباستخدام سلاح المساعدات وتسليح الجيش كأداة للضغط.
كلّ ذلك يحدث فيما إسرائيل تواصل التصعيد بعد عام على اتفاق وقف إطلاق النار، كما لو أنه لم يكن، بالتوازي مع التلويح بتوسيع القتال مرّة أخرى، وكلّها وقائع تكرّس شعورًا لبنانيًا، وخصوصًا لدى جمهور الحزب، بأن إسرائيل تستخدم وقف إطلاق النار لتكريس وقائع جديدة لا تقل خطورة عن مرحلة الحرب نفسها. وهنا، يكتسب شعار قاسم “لكل شيء حدّ” بعدًا ردعيًا أكثر منه دعوة فورية إلى الحرب.
باختصار، يلوّح الشيخ قاسم بأن الصبر على الخروقات لن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن الحزب مستعد للعودة إلى الميدان إذا ما تواصل “الخطر الوجودي” على لبنان. لكنّه في الوقت نفسه، لا يعلن أي مسار تصعيدي محدّد، بل يربط كل شيء بسلوك إسرائيل والتفاهمات حول تنفيذ الاتفاق. النتيجة عمليًا هي تثبيت حالة “اللاحرب – اللاسلم” الحالية، مع رفع كلفة الضغط على الحكومة عبر إدخال العامل الأمني مجددًا إلى حسابات الدبلوماسية.
في النتيجة، لا يسرّع خطاب الشيخ قاسم الحرب بقدر ما يعيد ترتيب شروط اللاسلم الحالية. الرسالة الأساسية إلى واشنطن وتل أبيب هي أنّ الضغط السياسي والاقتصادي لن يُنتج استسلامًا لبنانيًا، وأن أي تسوية دائمة للحدود لن تمرّ فوق رأس المقاومة أو على حسابها. والرسالة إلى الداخل أنّ الدولة مدعوّة إلى استعادة سيادتها فعلاً، لكن من بوابة إلزام إسرائيل بالانسحاب ووقف الخروقات، لا من بوابة تحويل الجيش إلى بديل عن معادلة الردع.
وبين هاتين الرسالتين، يبقى هامش الخطأ ضيّقًا؛ فأي سوء تقدير على الجبهة أو في كواليس التفاوض قد يحوّل عبارة “لكل شيء حدّ” من تحذير سياسي إلى مقدمة لجولة جديدة من النار في الجنوب.

