15 نوفمبر 2025, السبت

“دبلوماسية الإعمار” على الطاولة.. من يدفع وما هو شكل الأموال وقنواتها؟

Doc P 1442461 638987978078689126
فجّرت باريس نقاشًا جديدًا في بيروت حول “دبلوماسية الإعمار”. الرئيس إيمانويل ماكرون جدّد عزمه عقد مؤتمر دعم للجيش وآخر للتعافي والإعمار لكن بعبارةٍ فاصلة: “عندما تتوافر الشروط”. خلف هذه الصيغة المقتضبة تقف معادلة واضحة: أي تمويل واسع النطاق سيبقى مشروطًا بتقدّم ملموس في احتكار الدولة للسلاح وتثبيت ترتيبات الجنوب والقرار 1701، بالتوازي مع مسار إصلاحي مالي – نقدي قابل للقياس. فما الذي تعرضه باريس فعلًا؟
 
تكرّس الخطابات والرسائل الفرنسية الأخيرة وآخرها عبر جولة مستشارة الرئيس ماكرون اللبنانية آن كلير لوجاندر مسارين متوازيين: دعم عاجل لمؤسّسات الدولة، وفي طليعتها الجيش، ثم حزمة تعافٍ وإعمار أوسع إذا التزمت بيروت بالمسارات المذكورة. وقد سبق لباريس أن قادت مؤتمرات حشدت تمويلًا إنسانيًا وأمنيًا كبيرًا سابقا، وتتهيأ اليوم لاستنساخ التجربة بصيغة أكثر ارتباطًا بنتائج ميدانية وإصلاحية. تربط باريس أي انخراط مالي طويل الأمد بترجمة واقعية لـ”احتكار الدولة للسلاح” وانتشار أوسع للجيش جنوبًا بالتكامل مع دور اليونيفيل، في إطار القرار 1701 المُجدَّد هذا العام، وما تبعه من دعوة أممية إلى بلورة خيارات تنفيذية مستدامة. بكلمات أوضح، المانحون يريدون ضمانات أمنية قابلة للقياس قبل فتح صناديق الإعمار.
 
على الضفّة المالية، لا يكفي “التعهّد” السياسي. صندوق النقد يطلب حزمة متماسكة، تتمثل بضبط مالي، حوكمة، إعادة هيكلة للقطاع المصرفي، وإطار عادل لتوزيع الخسائر. تقدّمت بيروت بخطوات تشريعية (سرّية مصرفية مُعدّلة، قانون لإعادة هيكلة المصارف)، لكنها ما زالت تحتاج إلى قرارات صعبة في تعريف فجوة الخسائر وتقاسمها. من دون ذلك، سيبقى الدعم محصورًا بالشقّ الإنساني والأمني، لا بالبنى التحتيّة الثقيلة. النموذج المرجّح خليطٌ من منح إنسانية وتنموية ودعمٍ أمني مباشر، تُضاف إليه قروض ميسّرة لمشاريع محدّدة (طاقة، مياه، طرق) عبر مؤسّسات أوروبية ودولية. الحصّة الفرنسية ستكون قيادية سياسيًا، مع مساهمات محتملة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبعض دول الخليج، لكن إطلاق الدفعات سيُجزَّأ على مراحل مرتبطة بمدى التزام لبنان بالمسارين الأمني والإصلاحي. هذا ليس افتراضًا نظريًا؛ إنه تلخيص لطريقة اشتغال مؤتمرات باريس السابقة وحدّيث باريس الراهن عن “المؤتمرَين عندما تتوافر الشروط”.
 
لماذا هذه اللحظة مختلفة؟
بعد عامٍ من تجديد ولاية اليونيفيل وتحديث السردية الأممية تجاه الجنوب، تتقدّم فكرة “سلامٍ قابل للقياس” كمفتاح أول لأي رزم تمويل كبيرة. لا يكفي وقفُ نارٍ هشّ؛ المطلوب مؤشرات أداء: انتشار للجيش، نقاط مراقبة، ومسارات ضبط على المعابر. في المقابل، رسائل صندوق النقد العلنية في ختام بعثاته واجتماعاته الإقليمية تُعيد التذكير بأن استعادة الاستقرار المالي تمرّ عبر قرارات موجعة، ولا إعمار بلا إصلاحات تُنفّذ لا تُوعَد.
 
سياسيًا، تلقّت بيروت إشارات ترحيب فرنسية بخطواتٍ باتجاه “حصر السلاح بيد الدولة”؛ لكن تحويل الترحيب إلى أموالٍ مرصودة يمرّ عبر قرائن ميدانية جنوبًا وخارطة طريق إصلاحية مُعلنة زمنيًا. حكوميًا، تحدّد بيانات رسمية التوجّه إلى تفاوض جديد مع IMF وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، فيما تضع القوانين التي أُقرّت مؤخرًا الأساس من دون أن تحسم “مَن يدفع الثمن” في فجوة الخسائر. باختصار: البنية المؤسّسة موجودة، لكن الاختبار هو التنفيذ.
 
أبعد من لغة المؤتمرات تبدو بيروت على عتبة مرحلة تتقاطع فيها السيادة بالتمويل حيث تُدخِل باريس ومعها عواصم مانحة الملف اللبناني في معادلة أمنية اقتصادية تُقاس نتائجها على الأرض لا في البيانات. فالأموال لن تتحرك ما لم تُترجم الدولة احتكارها للسلاح بانتشار فعلي جنوبًا،وتراجع ملموس في الخروق، مع خارطة إصلاحات مالية قابلة للمحاسبة. فيما يعني ذلك سياسيًا نقل النقاش الداخلي من الشعارات إلى الاختبار الميداني وإداريًا ترسيخ رقابة تنفيذية أشد على المشتريات العامة ومشاريع البنى التحتية بما يشبه إدارة مشروطة ناعمة تعيد تعريف العلاقة بين المانحين والمؤسسات اللبنانية. أما اجتماعيًا فالمطلوب انتقال سريع من اقتصاد الوعود إلى اقتصاد النتائج حيث يُقاس أي مؤتمر بعدد ساعات التغذية الكهربائية وبكلفة النقل وبفرص بقاء الشباب لا بعدد المتحدثين والمنصات. وبالتالي فإن دبلوماسية الإعمار لا قيمة لها من دون تحول يلمسه الناس في يومياتهم وإذا كان الخارج يلوح بالمساعدة فإن الداخل مطالب بإثبات الاستحقاق عبر أفعال لا بيانات لأن جسر الثقة بين الدولة والمجتمع لم يعد يبنى بالكلمات بل بمؤشرات أداء واضحة تفتح الباب للاستثمار وتغلق زمن الإغاثة الدائمة.

المصدر: Lebanon24