وفي هذا السياق، تعمد إسرائيل إلى إعادة فتح ملفات لبنانية سابقة من خلال سرديات جاهزة تُطرَح كوقائع. وبحسب مصادر أمنية مطّلعة، لا يهدف هذا الأسلوب إلى إعادة مناقشة تلك القضايا، بل إلى مراقبة طريقة تفاعل الداخل معها في لحظة توتّر سياسي. فتل أبيب تراهن على وجود أطراف محلية تتعامل مع أي موقف يصدر عنها كمعطى قابل للاستخدام، ما يجعل إطلاق رواية واحدة كافياً لإعادة توجيه النقاش الداخلي نحو مسارات تخدم أهدافها.
ومن هذا الباب تحديداً، أعادت إسرائيل إدراج ملف مقتل إلياس الحصروني في المشهد اللبناني. فالتحقيق الذي فُتح على اعتبار انه “وفاة مريبة” غير واضحة الملابسات، لم يصل بعد إلى خلاصة رسمية أو نتيجة قضائية نهائية، الامر الذي يبقي أي اتهام خارجي في حدود الرواية لا أكثر. ورغم غياب المعطيات الحاسمة، اختارت “تل أبيب” أن تُسقط سيناريو جاهزاً على ملف لا يزال قيد المتابعة، في خطوة تعكس رغبة واضحة في تحويل حادثة جنائية غير مكتملة إلى مادة توتير سياسي داخل بيئة تعرف إسرائيل حساسية التلاعب بها.
اللافت في هذه الجولة، بحسب المصادر، لم يكن الاتهام الإسرائيلي بحدّ ذاته، بل الطريقة التي تلقّفته بها بعض الأطراف داخل لبنان. فبدلاً من التعامل مع ما صدر عن جيش الاحتلال كجزء من حرب معلومات واضحة، جرى التعامل معه كمعطى قابل للاستخدام الداخلي، وهذا التلقّف السريع يعكس مزاجاً سياسياً يبحث عن أي مادة تُوظَّف في السجال الداخلي، حتى لو كانت صادرة عن طرف معادٍ يملك مصلحة مباشرة في تفكيك الساحة اللبنانية. بذلك تحوّل الاتهام إلى عنصر استثمار سياسي في بيئة مأزومة أصلاً، ما سمح لإسرائيل بأن تلعب دور المحرّك للنقاش الداخلي من دون أن تكون طرفاً مباشراً فيه.
ولعلّ اختيار هذا التوقيت لم يكن تفصيلاً. فمع استمرار الضغط العسكري في الجنوب وتعدّد القنوات الدبلوماسية المفتوحة حول مستقبل الاشتباك، ترى إسرائيل أن الساحة اللبنانية أكثر عرضة للتشويش السياسي. لذلك تتعامل “تل أبيب” مع الملفات الحسّاسة كأدوات مكمّلة للضغط العسكري بهدف رفع مستوى الريبة داخل المجتمع اللبناني وتعطيل أي إمكانية لنقاش داخلي مستقر. وفي الحسابات الإسرائيلية، تضيف المصادر أن أي خلل في تماسك البيئة أو أي اهتزاز في العلاقة بين المكوّنات الأهلية يُعدّ مكسباً يوازي مفاعيل العمليات العسكرية، بل قد يتفوّق عليها في لحظات معينة.
وعلى هذا الأساس، تؤكد المصادر أن إحياء هذا الملف لا يضيف أي جديد إلى الوقائع، لكنه يكشف حجم الرهان على دفع الساحة اللبنانية نحو مسارات مفتعلة انطلاقاً من مصادر خارجية تُقدَّم بديلاً عن التحقيقات. ومن هنا تأتي ضرورة أن يبقى التعامل مع هذه القضايا ضمن الإطار المؤسساتي اللبناني حصراً، لا ضمن “تغريدات” طرف معادٍ يسعى إلى التأثير في سياق سياسي دقيق تتشابك فيه الضغوط الأمنية والسياسية.

