17 نوفمبر 2025, الأثنين

ما أشبه لبنان بهذا البحر

Doc P 1443093 638989666520474327
إذا توقّف أي لبناني، أيًّا يكن انتماؤه الطائفي أو المناطقي أو الحزبي، أمام مشهدية ما يجري في لبنان، وأمام المتغيرات المتسارعة في المنطقة، وأمام الواقع المأزوم عشية الانتخابات النيابية غير المعروف مصيرها، وقبل أسبوعين من زيارة البابا لاوون الرابع عشر، وأمام التهديدات الإسرائيلية المتواصلة، وأمام تعرّض اللبنانيين لضغوطات خارجية متعدّدة المصادر، لا يمكن لهذا اللبناني إلاّ أن يتطلع إلى هذا البحر الواسع الممتد على طول شاطئه من الشمال إلى الجنوب، ويسأل نفسه، كما يسأل كل من يلقي فيه همومه، وما يحتويه من أسرار ومكنونات، وما يحمّل من مسؤولية وما يُلقى به من مشاكل، إضافة إلى القاذورات، عن المصير المجهول، وعمّا ستؤول إليه أو ضاع البلد وسط كل هذا الضياع.
وفي هذه المناسبة تحضرني عبرة عمّا يُقال عن هذا البحر، ولكل قول من هذه الأقاويل ظروفه، بحيث تختلف وجهات النظر باختلاف هذه الظروف وطبيعتها وحيثيتها.
فالطفل الذي أضاع لعبته في هذا البحر، يصفه بـ “اللص”، في الوقت نفسه يقول الصيّاد عن البحر ذاته، بعدما اصطاد غلّة وافرة من السمك، إن هذا البحر سخي جدًّا.
وتتعدّد الروايات عن أوصاف البحر وتختلف وجهات النظر، لكن هذا البحر يبقى بحرّا، ويبقى الطفل طفلًا، ويبقى الصياد صيادًا.
فواقع لبنان اليوم يشبه إلى حدّ كبير هذا البحر. فثمة من يرى فيه ملجًأ وملاذًا آمنًا. والبعض الآخر يجده خندقًا يتمترس فيه. وآخرون يصفونه بكل الأوصاف الواردة في كلمات جبران خليل جبران، وفي قصائد نزار قباني، وفي أغاني السيدة فيروز والشحرورة صباح، وفي مشهدية لامارتين، وفي ألوان كبار الرسامين.
فالنظرة إلى “هذا اللبنان” تختلف بين هذا اللبناني المنتمي إلى محور “الممانعة” عن نظرة اللبناني المنتمي إلى “المحور السيادي”، ولكل منهما منطقه. فابن الجنوب له نظرة مختلفة عن لبنانه عن ابن الشمال والجبل. هو لا يرى فيه سوى “عين” تحاول أن تقاوم “المخرز”، فيما يرى فيه اللبناني الآخر “سويسرا الشرق”. وهنا تُستحضر سردية الجدل بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبين قيادات “حزب الله” عن أي لبنان نريد. هو كان يريده على شاكلة “هونغ كونغ”، فيما “الحزب” كان يتمسّك، ولا يزال، بخيار “هانوي”، أي أن إسرائيل لا تفهم إلا لغة واحدة، وأن الحديد لا يفّله سوى الحديد.
اللبناني الذي يتطلع إلى ألا يكون في دولته سوى سلاح الشرعية يقابله لبناني آخر يقول بأن بندقية المقاومة هي التي تحميه وتحمي كل لبنان من أي اعتداء إسرائيلي عليه. الأول يطالب بحصر السلاح بيد القوى الشرعية دون غيرها من قوى الأمر الواقع، فيما يرى الثاني بأن سلاح المقاومة سيبقى حيث هو، وأن لا قوة في الكون تقدر أن تنتزعه منه.
هي مقاربات مختلفة في كل شيء. من “حصرية السلاح”، إلى موضوع التفاوض مع العدو، وصولًا إلى “مآثر” المادة 112 من قانون الانتخاب. فالذين يسعون إلى تغيير الواقع عبر صناديق الاقتراع يصرّون على الغاء هذه المادة أو تعديلها، بحيث يصبح في امكان المغتربين في كل أصقاع المعمورة، وإلى أي طائفة أو إلى أي حزب انتموا، أن ينتخبوا مثلهم مثل أي لبناني مقيم لنوابهم الـ 128.
أمّا الذين يرون في هذه الاندفاعة ْاستهدافًا لطائفة معينة أو اقصاء لها أو عزلها فيتمسّكون بالقانون الحالي النافذ، ويطالبون بألا يكون للاغتراب سوى ستة نواب فقط يّضافون إلى النواب الـ 128.
وبين هذا وذاك يجد اللبناني، الذي لا همّ له سوى العيش بكرامة وتأمين لقمة عيشه بعرق جبينه، أن لبنان الذي يحلم به لم يعد موجودًا سوى في حكايات “ألف ليلة وليلة”، وفي مسرحيات الاخوان رحباني، وفي قصائد الشعراء. يحاول أن يفتشّ عمّا تبقّى له من ذاك “اللبنان” من ذكريات فلا يجد سوى خيبات الأمل، ومجرد “قبائل” سياسية تتناحر وتتصارع في الوقت الذي يرى فيه عقارب دول الجوار في سباق لـ “التعمشق” بقطار الخطّ السريع”، الذي سيوصلها حتمًا إلى ما يؤّمن لشعوبها ما يفتقده اللبناني من أمن وسلام وانفتاح وازدهار وبحبوحة.

المصدر: Lebanon24