12 نوفمبر 2025, الأربعاء

خطاب قاسم: رسالة متشددة ورسالتان إيجابيتان

Doc P 1441216 638985378333192739
في ظل احتدام الضغوط الأميركية على لبنان وتكثيف واشنطن حملتها لتجفيف ما تسميه مصادر تمويل حزب الله، جاء خطاب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم في احتفال يوم الشهيد ليشكل حدثا سياسيا بامتياز، لا مجرد مناسبة رمزية. فالكلمة، التي أُلقيت في توقيت بالغ الحساسية داخلياً وإقليمياً، رسمت ملامح موقف الحزب في المرحلة المقبلة، محددة بدقة حدود الصبر وحدود الانفتاح في آنٍ واحد.
الخطاب حمل نبرة متشددة تجاه محاولات فرض تسويات على الحزب أو انتزاع سلاحه، لكنه تضمن في الوقت نفسه رسائل إيجابية توحي باستعداد الحزب للتعاطي الواقعي مع متطلبات المرحلة، بما يعكس سعياً واضحاً للموازنة بين الثبات العقائدي والبراغماتية السياسية.

وجه الشيخ قاسم رسالة حازمة حين أكد أن الحزب لن يتخلى عن سلاحه، فقال: “إن استمرار العدوان لا يمكن أن يستمر، فلكل شيء حد”، محذرًا من أنّ “الصمت على الخروقات الإسرائيليّة لن يدوم”. وأضاف: “العدو يواصل اعتداءاته ويمنع الأهالي من العودة إلى قراهم، لكن لبنان لن يبقى متفرجا أمام هذه الانتهاكات”، في إشارة واضحة إلى أن صبر حزب الله على الضغوط الإسرائيلية ليس مفتوحًا إلى ما لا نهاية.
بهذه العبارات، أعاد الحزب، بحسب مصادره السياسية، تثبيت أحد أعمدة معادلته الاستراتيجية، ومفادها أنّ السلاح شمال الليطاني ليس ورقة تفاوض ولا أداة ابتزاز، بل ضمانة لسيادة لبنان وردعه. وفي الوقت نفسه، وجه إنذاراً مبطناً بأن استمرار العدوان الإسرائيلي أو تصاعد الضغوط الأميركية قد يفضي إلى رفع مستوى الرد الميداني، ما يعني أن خيار التصعيد لا يزال مطروحاً إذا تجاوزت الأطراف الأخرى الخطوط الحمر.

ورغم هذا التشدد، تضمن الخطاب رسالتين إيجابيتين عكستا وجها آخر للموقف الحزبي، أقرب إلى العقلانية الاستراتيجية منه إلى المواجهة المفتوحة. الرسالة الإيجابية الأولى كانت مطمئنة، إذ أشار قاسم بشكل غير مباشر إلى أن أمن المستوطنات الإسرائيلية لن يتعرض لأي تهديد في المرحلة الراهنة، ما فسر على أنه تأكيد بأن الحزب ليس في وارد تعريض هذه المستوطنات لأي توتر، في ظل محاولات دولية لضبط الجبهة الجنوبية بعد اتفاق 27 تشرين الثاني 2024.
أما الرسالة الإيجابية الثانية فكانت موجهة إلى الداخل اللبناني، إذ أعلن قاسم أن الحزب مستعد للتعاطي بإيجابية مع الجهود الوطنية لإيجاد حلول، قائلاً بصراحة: “كل ‏السبل مفتوحة لنقاش داخلي بين اللبنانيين بإيجابية وتعاون، ‏على قاعدة قوة لبنان واستقلاله وسيادته. لا ‏علاقة لأحد بما يتفق عليه اللبنانيون، ولا أحد يدخل بيننا. نحن نرتّب أمورنا ونتفق ‏على كلّ شيء”.

وفي هذا الإطار، أكدت المصادر أنّ الحزب جاد في تنفيذ الانسحاب العسكري من جنوب الليطاني وفق ما نص عليه الاتفاق، وأنه لا ينوي العودة إلى أي نشاط عسكري في تلك المنطقة. أما في ما يتعلق بشمال الليطاني، فقد أرسل الحزب إشارات إيجابية عن استعداده للوصول إلى تفاهمات داخلية بالتعاون مع الدولة اللبنانية، من دون أي تدخل خارجي. هذه العبارات أعادت تموضع الحزب كطرف منفتح على الحلول الداخلية، شرط أن تبقى السيادة في يد اللبنانيين وحدهم.

اختار الشيخ قاسم أن يربط مواقفه الراهنة بجذور المقاومة التاريخية، مستعيداً عملية الشهيد أحمد قصير عام 1982، ليؤكد أن خيار المقاومة ليس طارئا بل متجذر في وجدان اللبنانيين. هذا الاستحضار للتاريخ شكل، بحسب المصادر، عنصراً تعبوياً ورسالياً هدفه تذكير الداخل والخارج بأنّ المعادلة التي صنعت التحرير عام 2000 ما زالت قائمة: الإيمان والإرادة أقوى من أي سلاح.
وتناول قاسم اتفاق 27 تشرين الثاني 2024 بوصفه إنجازا جزئياً أتاح انسحاب إسرائيل من جنوب الليطاني وانتشار الجيش ، لكنه شدد على أن تنفيذ الاتفاق بالكامل شرط لأي بحث في ترتيبات لاحقة، مؤكداً أن وجود الجيش في الجنوب لا يتعارض مع المقاومة بل يعزز موقع الدولة في حماية الحدود، في محاولة لتكريس فكرة الشراكة الدفاعية بين الدولة والمقاومة لا التناقض بينهما.

وفي موازاة الانفتاح على الداخل، كان الخطاب قاسياً تجاه واشنطن، التي اتهمها قاسم بالسعي إلى إضعاف المقاومة وتجفيف مواردها المالية تحت شعار مكافحة الإرهاب. هذه المقاربة تعكس، بحسب المصادر، قناعة الحزب بأن الأزمة الاقتصادية والسياسية التي يعيشها لبنان ليست معزولة عن الضغط الأميركي المنهجي، وأن المطلوب هو إخضاع البلاد لشروط تمس سيادتها. من هنا، جاءت دعوته الحكومة إلى تحمل مسؤولياتها في حماية القرار الوطني وصوغ خطة سيادية واقعية بعيداً من الإملاءات الخارجية.

واختتم الخطاب بما يشبه وثيقة موقف من خمس نقاط، تضمنت التمسك بتنفيذ اتفاق 27 تشرين الثاني كاملاً، والتأكيد على الشراكة بين الدولة والمقاومة، ورفض أي اتفاق بديل يخفف من مسؤولية إسرائيل، والتحذير من رفع مستوى الرد في حال استمرار العدوان، وأخيرا التأكيد أن الشعب المقاوم هو ضمانة الدولة ومصدر قوتها وكرامتها.
بهذا، وضع الحزب خريطة طريق سياسية وميدانية واضحة تحدد سقف تحركاته المقبلة.

في محصلة الخطاب، يبدو أن حزب الله يسعى، بحسب المصادر، إلى إرسال رسالة مزدوجة مفادها أن لا تراجع عن السلاح ولا تسليم بضغط خارجي، لكن في المقابل هناك انفتاح على التفاهم الداخلي واستعداد لتسويات تحفظ التوازن بين المقاومة والدولة. وهكذا، قدم الشيخ نعيم قاسم صورة التشدد الهادئ لحزب متمسك بثوابته، لكنه يدرك أنّ المرحلة المقبلة تتطلّب واقعية سياسية تبقي النار تحت السيطرة دون أن تطفئها. وبين حدود الصبر التي تحدث عنها قاسم، وحدود الانفتاح التي لمح إليها، يبدو أن الحزب يضع لبنان أمام معادلة الانخراط في الحلول دون الخضوع للإملاءات.

 

المصدر: Lebanon24